:afro: العصا البيضاء
مسح نظاراته السوداء بطرف ثوبه...ثم أجال بصره يمينا و شمالا كأنه ينتظر أحدا.تسمر نظره في سماء صارخة الزرقة. الحق أن الرجل كان وسيما و أجمل ما في سحنته عيناه السوداوان .
كنت للتو قد جلست على مقعدي في هذا المقهى الأثير إلى نفسي ،و أنا ألتمس ظلا ألوذ به في هذا اليوم القائظ.
- ماذا تشرب يا سيدي ؟- سألتني النادلة الأنيقة بصوت أنثوي رخيم يشبه واحة فيحاء في فلاة قاحلة.
قلت و أنا أتعمد إطالة الحوار حتى أمتع العين بمحاسنها إلى أقصى حد - أخشى أن الشراب الذي أنشده غير متاح هنا-
- أطلب و سيجاب طلبك في الحين -
- أبتغي شرابا أعد من الرحيق الذي يترنح فوق شفتيك –
بهتت الفتاة من طيشي و نزقي ..و تورم خذها بحمرة آسرة و قالت و هي تجتهد ألا تلتقي نظراتنا– أنت تبالغ يا سيدي . أنا في انتظار طلبك –
- بعض العصير المثلج من فضلك –
كان صاحبنا قد ارتدى نظاراته مجددا و أخذ يرتشف قهوته قرير العين...كانت أناقته محط إعجاب رواد المقهى. ذقن حليق بعناية. بدلة باريسية فاخرة . وحذاء أسود لامع من روما.
طك..طك...عادت النادلة ثانية تحمل إلي ذلك العصير المثلج و جديلتها المعطرة تتدلى في خجل على كتفها الأيمن . أثلج صدري لقاءها مجددا...و رحت أفترس أنوثتها الفائرة بنظري الظمآن. قالت و هي تبتسم كأن الشمس قد أشرقت من شفتيها – ها هو ذا عصيرك يا سيدي . بالصحة و الهناء-
- أشكرك على كرمك الأميري يا آنستي –
و مضت الفتاة لحالها كالنسيم العليل...و مضى قلبي يقفز في أثرها و أنا أحاول جاهدا أن أسترده إلى قواعده الجدباء فما أفلحت.
فرغ الرجل الأنيق من ارتشاف قهوته . كان جاثما على كرسيه قبالتي لا تفصلنا سوى أمتار قليلة. أشعل سيجارا عملاقا كتلك السجائر التي يقتنيها المترفون من كـــــــــــــــــــــــــــــوبا...أخذ يرنو إلي من خلف نظاراته المهيبة . اقتلعني سيل نظراته من النهر المخملي الذي كانت تسبح فيه أفكاري رفقة تلك الجديلة الآسرة...أمعن صاحبنا في التحديق نحوي كأنه يعرفني . و ارتعت من ذلك الموقف ،و ساورني شك عارم . هنا ألحت علي تلك المقولة الفلسفية ( أنا أشك إذن فأنا موجود )...و سمعت هاتفا من أعماقي السحيقة يهمس – إن الرجل يدبر لك مكيدة فاحترس -
استحوذت الريبة على تفكيري ، و تمادى صاحب النظارات السوداء في تأملي دونما توقف ...وأمسى المقهى خاليا من رواده ما عدا...أنا... و ذلك الشخص الغريب الأطوار وحيدين و متقابلين مثل ديكين متوثبين فوق هذه البقعة التي تئن تحت قيظ الشمس. و قد تعكر مزاجي للغياب المفاجئ لتلك النادلة الفاتنة .و لافتقادي لتلك الجديلة المخملية.
أخيرا قررت أن أواجهه بنفس السلاح ...و أن أقاتل ذودا عن حصوني. تطلعت إليه بعينين حانقتين . كان يرمقني رابط الجأش هادئ القسمات ..استفزتني نظاراته السوداء و أثارت حفيظتي بسمته الواثقة ، فشعرت بدماء غاضبة تسري في عروقي ...انقبضت عضلات وجهي و أفرجت عن سؤال مقتضب – ما الذي يحملك على أن تتطلع إلي؟ هل تعرفني يا هذا ؟ -
خمدت تلك البسمة بين شفتيه ...لكن نظراته المتلاحقة نحوي لم تنقطع قط حتى كدت أن أفقد أعصابي ...قلت في ضجر- لا أعتقد أنك أخرس كي لا تحفل بسؤالي ..أجب لم لا تتوقف عن التحديق في وجهي؟ -
أخرج صاحبنا قطعة نقدية وضعها على الطاولة ثمنا للقهوة . وانتصب واقفا بعد جهد شاق و هو يستند على كرسيه...ثم أخرج عصا بيضاء اللون ،هتفت دون شعور مني – رباه عصا بيضاء؟؟؟- و مضى يتلمس الطريق بتلك العصا خشية أن يسقط أو مخافة أن يصطدم بتلك الكراسي المتناثرة كما الحشائش..ذهلت حقا و تملكني الخجل من نفسي .. كانت أول و آخر جملة نطق بها قبل أن يمضي – لا حول و لا قوة إلا بالله -