رسالة الى جدي في قبره
حينما بلغ الضجر مني مبلغه , قررت أن أقتحم غرفة جدي بعد أن أيقنت أن عظامه أصبحت رماداً فلم يجرؤ أي مخلوق من الأقتراب منها طيلة حياته رحمه الله. كان جدي ذو قامة طويلة وشوارب مفتولة , صوته يثير الرعب في الأرجاء. أوامره لا تقبل الطعن او النقاش.
كلما بدا لنا ظله , كنا نختبؤ كنمل سليمان صارخين أن استعدوا أيها الصبية فهولاكو قادم فخذوا حذركم.
كانت ابتسامة جدي كهلال رمضان نراها مرة كل عام. فهي عيد بحد ذاتها. ولكن رغم صرامة المشهد إلا أنه كان مدرسة في الورع والاُخلاق والرجولة.
كان احترام الكبير عنده مقدساً , وكان يأمرنا أن نُقَبِّلَ أيدي آبائنا كلما التقينا بهم , والويل لمن يخالف ذلك حتى أصبحـت تلك عادة محببة لنا لننال رضاه قبل أن نعلم أنها واجب شرعي امرنا الله به بأن نخفض لهما جناح الذل من الرحمة.
أما أقرانه من الرجال فواجبنا أن نهرول نحوهم لنحمل ما نقدر عليه من متاعهم ونقدم لهم واجب الإحترام والتقدير , فهم ولاة اُمورنا حينما يغيب الجد ومحبتهم لنا كمحبتهم لأبنائهم.
إقتحمت غرفة جدي كالفاتحين دون رهبة أو خوف,وبدأْت أعبث بما تحويه من آثار وأدوات قد عفا عليها الزمن.وجدت ذلك الصندوق الخشبي العجيب الذي كان يحتضنه جدي منذ الصباح , كان يقلب أزراره حتى يلتقط أي صوت يعثر عليه. وحينما يعلو الصوت كان إنذار جدي لنا ألا نقترب منه فهذا جنيٌ راقد بداخلة فإياكم من لمسه أو العبث به. كنا نختلس نظرة من أطراف الصندوق علنا نفك لغز ذلك الجِنيَّ اللعين فلم نجد شيئاً.
حينما كبرنا قليلاً أدركنا أن صندوق جدي ليس سوى مذياع كان مالكه في ذلك الزمان من كبار القوم يجمع أهل القرية ليتلو عليهم أخبار الكون .وما يقوله الجنيُّ مُصدَقاً لا رياءِ فيه. وكان جدي منذ بواكير الصباح يعلن لأقرانه أخبار ما فاتنهم سماعه.
ترحمت على جدي وزمانه . إستلقيت على فراشي بعد ان تسلل النعاس الى جفوني أغمضت عيناي واسترجعت ما خزنته ذاكرتي من أحداث جسام ,غلبني النوم العميق .فجأة إذا بشبح جدي ينتصب أمامي كالمارد .قفزت من فراشي حاولت النجاة بجلدي .صاح جدي قائلاً :أتهرب مني أيها الولد الشقي .لماذا عبثت بما تركته لكم أيها اللعين.
تمالكت نفسي وقلت له : لا تغضب فصندوقك الاسود يا جدي قد تبدل ,تعال وانظر الى صناديقنا ايها الشيخ الجليل.
جلس جدي على أريكة لم تكن في زمانه.أدرت جهاز التلفاز عن بعد.انتفض جدي من الخوف بعد ان شاهد أُمماً داخل الصندويق الأسود .حينها صرخ قائلاًً : هل أُمة الشياطين انتقلت الى بيوتكم ؟
أجبته: هون عليك يا جدي فهؤلاء أحفاد الفاتحين وهذا عشقهم الممنوع انغمسوا في تمثيله. وتلك ً فتياتهم الممشوقات اللواتي يسيل لهن كل لعاب وقد امتلأت أحشائهن من علاقة عابرة.
رد علي غاضباً : هل هذا سفاح أم حرية تعبير. كيف سمحتم لهم بدخول بيوتكم بلا استأْذان حتى غيرت مفاهيمكم وقيمكم وربما دينكم كذلك.
لقد تغير كل شيء يا جدي . فقد انقلبت الامور فأصبحت التعري من صميم ثقافة صناديقنا السوداء.
رد بحدةًِ : تباًً لكم ولزمانكم.
لاتحزن يا جدي ,هون عليك. سآخذك في رحلة تجوب الأرض خلالها وأِنت جالس في مكانك
وكيف ذلك أيها الابله؟ هل جننت يا ولدي؟
قلت له: من خلال الشبكة العنكبوتية.
فقال ارني ذلك أيها المخبول؟
أردفت قائلاً: ولكن أُريد منك وعداً قاطعاً الا تطلق جدتي بالألفِ لأن قوامها لا يشبه عارضات الأزياء. والا تتزوج من عارضة تعرض نفسها على الشبكة قبل أن تفاجأ بها عجوز شمطاء لن تقول كلمة صدق قبل أن تخطبها على الأثير.
لك ما شئت أَيها الماكر الخبيث أجاب جدي.
قاطعته قائلاً: وهل ستقدر يا جدي على تحمل رشح الدجاج والخنازير وجنون البقر وربما جنون البشر بعد أن عبثنا بالطبيعة التي خلقنا الله عليها.
أجابني قائلاً: الان أدركت لماذا حق عليكم العذاب.
ولكن ماذا ستقول لنا لو علمت أن أولادك وأحفادك يتبادلون التهاني بالعيد عبر الرسائل النصية القصيرة؟
رد غاضباَ: بأْس الخلف انتم. وهل نسيتم ما كنت أثذكركم به من جميل القول
كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى خطب ولا تفرقوا احادا).
وماذا أنت بفاعل لو علمت أن لصوص الدجاج لم يعودوا يتسللون لقنها لسرقة بيضها في عتمة الليل بعد أن لبسوا بدلات بياقات بيضاء تزينها ربطات عنق من أشهر دور الأزياء العالمية.
قال : هذه بداية النهاية يا ولدي. بسبب ذلك امتلأت مستشفياتكم بمن يريد ربط معدته من شدة التخمة بعد أن كان ذلك حكراً على الخاوية بطونهم . عرفت الان لماذا قست قلوبكم فأصبحت كالحجارة او أَشد قسوة,فلم يعد يهتز لكم رمش من منظر شيخ يفظ أنفاسة الأخيرة على عتبات مستوصف لضيق اليد وقلة الحيلة.
جفت دموعكم في مآقيها فلم يعد يهتزلكم جفن من صور أطفال يتحسسون رؤوس أُمهاتهم اللواتي سُجّينَ أماهم على أَمل أَن تعود لهن الحياة . فعداد الموت أصبح عندكم كالة طبع الدولارات لا تتوقف عن العمل أبدا.ً
لقد قتلنتني أَيها الشقي اللعين , أكلتم لحم بعضكم بعضاً وأنتم أحياء. فأَصبحتم كالجيفة تنهشها الذئاب.سأَعود الى قبري أفضل من عيشتكم النتنة.
تمهل يا جدي العزيز, كنت أود أن أضع باقة ورد على قبرك الطاهر لكن أزهار ربيعنا قد جفت قبل أن تثمر لأننا سقيناها بسَم ِالحقد الدفين بدلاً من ماء الحياة.
أغرب عن وجهي ايها الشيطان . صاح قائلاً. واتبعها بصفعة على خدي الايمن فأَدرت له الايسر فثنى عليه بمثلها.
صرخت قائلاً: هولاكو العزيز , نم في قبرك مطمئن البال فإنا على دربك سائرون.
قفزت من فراشي كالملدوغ إستعذت بالله من الشيطان الرجيم وحمدت الله حينما أدركت أنها أضغاث أحلام.
كتبها : إبراهيم أبو عرقوب