البقعة الملعونة
من فرط شوقك لارتداء ملابس جديدة، فإنك تنتظر على أحر من الجمر تلك الفرصة السانحة، والتي لا تتكرر إلا مرتان في السنة كرحلتي قريش. وقبل أن تلف جسدك النحيل داخل الثياب الجديدة؛ بعد دلكه بالحجر الرملي، ودهنه بالصابون البلدي، فإنك تستعجل التجرد من الأسمال البالية، ناظرا إليها بعين السخط والاحتقار، مستعجلا لها ذلك المصير المشؤوم؛ بأن تمزق قطعا صغيرة ليصنع منها" سافس" أو تستعمل لحمل الطجين الساخن، حين إخراجه من التنور.
في البداية أسررت لها أنك ستخضعها للامتحان، إن كانت تناسبك طولا وعرضا، وبعد ذلك تتركها وشأنها، أول محك لها تعرضها على الوالدين الكريمين، فإن نالت إعجابهما، حظيت أكثر فأكثر بعطفك وحبك لها.
الأم منهمكة في دق وريقات الحناء في المهراس، تطربك دقات الدقاق المتتالية، لاسيما الدقة التي تخطىء هدفها وتصيب حافة المهراس. الأب يردد أذكار العيد قبل الأوان؛ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، الله اكبر، الله أكبر ولله الحمد.
- أمي، أبي، انظرا، إنها جميلة جدا، أليس كذلك؟
- بالصحة والعافية، اعتن بها حتى الصباح.
- أجل، أجل، سأعتني بها جيدا.
بعد أن انفردت بها، أسررت لها ثانية، أنك تحبها، فشرعت في تقبيلها.
- أممممممممممح أيتها العزيزة الغالية، أحبك كثييييييرا؛ غدا سأقدمك إلى أصدقائي، أكيد سيعجبون بك أيما إعجاب، سيغارون مني، بل ومنهم من سيحسدني ويعض أنامله الفتية من الغيرة، ويود المسكين، لوكنت من نصيبه أيتها المحبوبة المبجلة لا من نصيبي أنا.
- ......................!
- أتمنى أن تتكرر زيارتك لي في السنة أكثر من المرة والمرتين، ببساطة أنا أحبك، وأناقتك أيتها الأنيقة، تعجبني كثيرا.
ثم شرعت في فتح أزرارها، والتصقت بها والتصقت بك، فيالها من متعة ناعمة، وياله من شعور عميق ،ومديد بالفرح، يسري في الكيان مسرى الدم.
كرم الضيافة، يأبى إلا أن ترحب بها أيما ترحيب، كما لو كانت ضيفا كريما، فتغدق عليها بالتقبيل والحنان والعطف الزائد. بل إنك تقسم بأغلظ الأيمان، كما يفعل والدك لحث الضيف على المكوث بين جنبيكم يوما آخر على أيام الضيافة المعهودة. تقسم أن تبيت معك وتكون في ضيافتك. من أول نظرة، وأول لقاء حميمي، تعرض عليها أن تقاسمك فراشك، الليلة قبل الغد فلكل زمان، طقوسه ونكهتة ومتعته، فهذه اللحظات السعيدة، ليست كسابقاتها البئيسة، وربما كانت لحظات الغد المنتظرة، أسعد من هذه، التي هي طوع يديك.
فما كان منها إلا أن رضخت لرغبتك الجامحة، مستجيبة للقسم الغليظ،،كيف لها أن ترفض طلبك، وأنت تكن لها من الحب ما لم يبح به عنترة لعبلاه، وما لم يتغن به قيس لليلاه. لتأوي بها في الأخير إلى فراشك منتشيا بالفرح، وتناما قريري العيون.
الحذاء وحده الذي استثناه القسم، وآثرت أن تتوسده تارة، ثم تحتضنه تارة أخرى بيد مكفنة وقابضة بإصرار على عجينة الحناء، مثلما تقبض روحك في هذه الليلة المباركة، بعروة السعادة الوثقى، سعادة العمر السنوية، وببسالة قل نظيرها بين بؤساء العالم. ثم تغمض جفنيك مستسلما للذيذ الأحلام، مطمئنا للقطعة النقدية النحاسية من فئة خمسين سنتيما، التي تدفئ الجيب وتزيد الأحلام لذة فوق لذة.
مع أول صيحة لأول ديك، تقتلعك الفرحة من فراشك، فتضطر لقطع حبل الأحلام الوردية الجميلة، تدخل كلتا يديك في جيبك متنسما أولى نسمات الصبح العليلة، نسمات العيد، ومتحسسا القطعة النحاسية، لكن سرعان ما تخرجها، وقد صفعتك يد الخيبة المريرة صفعة شديدة، تكاد ينهد لها كيانك، وترغمك على كبح جماح فرحتك الموسمية حينا من الدهر، ريثما تشرق الشمس وتجود عليك بخيوطها الدافئة، عساها تبتلع البقعة الداكنة، التي استحوذت على منطقة مهمة من سروال العيد الجديد، على مستويي الحوض والورك ، ولسان حالك يقول: تبا للبرتقال ولفيتاميناته، تبا لي إذ لم أكترث لتحذيرات أمي: باركاك من اللتشين راه غدا العيد سر تنعس باش تفيق بكري؟
فأين أنت من شمس أغسطس الحارقة، ومن شمس السمائم، كل يوم فيها صفيحة جمر تستعر، نعبر عليها إلى اليوم التالي...لا بأس وقد وقعت الواقعة، لعل شمس يناير الكسولة تفي بالغرض... خجولة أطلت شمس يناير المرتقبة منذ بزوغ فجر اليوم السعيد، تماما كما تمنيت. وجادت عليك، أو بالأحرى على سروالك بشعاع دافئ، لكن ما إن لامس البقعة الملعونة فيه، حتى أرخت سحابة ثقيلة الظل سدولها على الشعاع البهي، وشدت بخناقه كي يمج ما ابتلعه من البقعة العطنة الملعونة على عجل، فاسحة المجال لهذه الأخيرة، كي تتربع على عرشها الجديد صحبة قطرات مطرية أبت إلا أن تحييك، تحية العيد..ما أحلاك يا عييد..يا عيييييد ما أحلاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااآآآآآآآآآآآآآآآآآآك.
هامش
• سافس: قطعة قماش تسد فم الجرة
• البوش: الجرة
أحمدعبد القادر بلكاسم