موضوع: سعادة للبيع ـــ ألبرتو مورافيا الإثنين مارس 30, 2009 12:35 am
اقتباس :
سعادة للبيع ألبرتو مورافيا ترجمة:وفاء شوكت
ولدَ ألبرتو مورافيا في روما عام 1907، وتوفيّ فيها عام 1990. ألَّف كتابه الأول وهو في الثانية والعشرين من عمره: "اللامبالون"، الذي ضمن له الشهرة الفورية. نشرت روايته "المرأة الفهد" بعد وفاته، عام 1991. من أعماله: "الاحتقار"، "السأم"، "رحلة إلى روما"، وأخيراً "نزهات إفريقية". ظهر كتابه "جدل الأخطبوطات" في إيطاليا عام 1956، وهو مجموعة نصوص متهوِّرة، يبدو فيها مورافيا غير متوقَّع، ينهل من الميثولوجيا والأساطير الوثنية.
* * * *********************************
سعادة للبيع
نحو منتصف بعد ظهر كل يوم، كان الموظف العجوز المتقاعد، المدعو ميلون، يخرج من منزلـه، بصحبة زوجته أرمينيا، وابنته جيوفانا. كانت زوجته بدينة ومتقدِّمة في السن، وابنته هزيلة البنية، وقد أصبحت الآن مسنَّة ومثل المخبولة. كان آل ميلون الثلاثة، الذين يسكنون ساحة "ديللا ليبيرتا"، يصعدون ببطء، على خُطا أرمينيا السمينة، يمسحون شارع "كولا دي ريانزو"، متأمِّلين واجهات المخازن الواحدة تلو الأخرى. وكانوا يغيِّرون الرصيف في ساحة "ريزور جيمنتو" ويعودون، وهم يتابعون تأمُّل المحلات بالعناية ذاتها، نحو ساحة "ديللا ليبيرتا".
كان هذا الذهاب والإياب يستغرق قرابة ساعتين، الوقت الكافي للتجلُّد حتى تحين ساعة العشاء. لم يعد أفراد عائلة ميلون الثلاثة، الفقراء جداً، يدخلون إلى قاعة سينما أو مقهى منذ زمنٍ طويل. كان التنزُّه هو تسلية حياتهم الوحيدة.
في يومٍ من الأيام، وبعد أن خرجوا في الساعة المعتادة وصعدوا شارع "كولا دي ريانزو" تقريباً حتى ساحة "ريزور جيمنتوا"، لفَتَ انتباه أفراد عائلة ميلون الثلاثة مخزن جديد، وكأنه فُتِحَ بطريقةٍ سحرية، في المكان الذي لم يكن حتى مساء أمس سوى حِباك مغبرّ. كان صقيل الزجاج يمنعهم من تمييز البضاعة. فاقتربوا، ثلاثتهم، من المخزن، ودون أن ينبسوا ببنت شفة، شكّلوا نصف دائرةٍ على الرصيف وهم يصطفّون أمام واجهاته.
إنهم يرون الآن البضاعة بوضوح: السعادة. كان أفراد عائلة ميلون الثلاثة، مثل جميع الناس هنا، قد سمعوا دائماً، الحديث عن هذه السلعة، ولم يروها أبداً. كانوا يتناقشون حولها هنا وهناك، كأنها شيء نادر جداً، ـــ وندرته ـــ صراحةً خيالية، مشككين بوجودها الحقيقي تقريباً. صحيح أن المجلات تنشر من حينٍ لآخر مقالاتٍ طويلة مصوَّرة، يقولون فيها إنّ السعادة في الولايات المتحدة إنْ لم تكن عامّة، فهي على الأقل سهلة المنال؛ لكن، كما نعلم، أمريكا بلاد بعيدة، والصحفيّون يتخيَّلون أشياء كثيرة. وعلى ما يبدو، كانت توجد وفرة من السعادة في الأزمنة الغابرة؛ إلا أن ميلون، مثل كل الذين طعنوا في السن الآن، لا يتذكَّر أبداً أنه رآها.
وهاهو متجرٌ الآن، وكأن الأمر لم يحصل، وأن الموضوع يتعلَّق بالأحذية أو أدوات المائدة، يقدِّم صراحةً هذه البضاعة، لكل شخص يريد شراءها. وهذا ما يفسِّر دهشة أفراد عائلة ميلون الثلاثة المسمَّرين إلى الأرض، الجامدين أمام هذا المتجر الغريب.
يجب القول إنّ هذا المتجر يُحْسِن عرض بضاعته جيداً في واجهاته الكبيرة المؤطّرة بحجر الترافرتين(1) اللامع، ولافتته طراز عام 1900، وجميع كمالاته وزيناته المصنوعة من المعدن المطلي بالنيكل(2). في الداخل أيضاً، كانت طاولاته على الطراز الحديث، وبائعان أو ثلاثة من الشبَّان الحيويين، الأنيقي الملبس، يجذبون بظهورهم فقط، الزبون الأكثر تردداً. وتظهر "السعادات" في الواجهات مثل بيض "عيد الفصح"، وهي معروضة حسب كبرها، وتوافق جميع الميزانيات، فيوجد منها الصغير والوسط والضخم، قد تكون مزيَّفة، وضعت للدعاية. وكان لكل سعادة بطاقتها الصغيرة، مع السعر المدوَّن عليها بالأحرف الطباعية المائلة.
انتهى الأمر بالعجوز ميلون إلى القول بسطوةٍ، معبراً عن أفكارهم:
ـــ هذا إذاً، لم أكن أتوقع ذلك أبداً...
سألته الفتاة ببراءة: ـــ لماذا يا أبي؟
ردّ عليها العجوز بانزعاج قائلاً:
ـــ هذا لأنه، ومنذ سنوات عديدة، يقولون لنا بأنه لا توجد سعادة في إيطاليا، وأنها تنقصنا، واستيرادها يكلَّف كثيراً... وهاهم فجأةً، يفتحون مخزناً لا يبيعون فيه سواها.
قالت الفتاة:
ـــ قد يكونون اكتشفوا منجماً.
فانبرى ميلون يقول ثائراً:
ـــ لكن أين؟ وكيف؟ ألم يقولوا لنا دائماً إن باطن الأرض في إيطاليا لا يحتوي عليها؟... لا نفط، ولا حديد، ولا فحم، ولا سعادة... ثم هناك أشياء ينتهي بنا الأمر إلى أن نكتشفها... هل تتخيَّلين؟... عندي شعور بأنني سأرى عناوين كبيرة تقول: بالأمس، كان "فلان" يتنزَّه في جبال "كادور"، واكتشف منجم سعادة من نوعيةٍ ممتازة...هيه، كلا، كلا،... إنها بضاعة أجنبية.
تدخّلت الأم بهدوء قائلة:
ـــ حسناً، أين المشكلة؟ هناك، لديهم الكثير من السعادة، وهنا، ليس لدينا منها: إنهم يستوردونها... أين الغرابة؟
رفع العجوز كتفيه حانقاً، وقال:
ـــ حجج غير معقولة... هل تفهمين فقط ما هو معنى استيراد؟ هذا معناه صرف نقودٍ ثمينة... نقود بإمكاننا استخدامها لشراء القمح... البلد يتضوَّر جوعاً... نحن بحاجةٍ إلى القمح... مهما قلتٍ، فإن الدولارات اليسيرة التي نجمعها بشد الحزام، نقوم بإنفاقها على شراء هذه البضاعة، هذه السعادة!
وجعلته ابنته يلاحظ قائلة:
ـــ لكننا بحاجةٍ أيضاً إلى السعادة.
أجابها العجوز:
ـــ هذا شيء غير ضروري. قبل كل شيء، يجب التفكير في الغذاء... أولاً الخبز، وبعد ذلك السعادة... لكن على أي حال هذا بلد اللامنطق: أولاً السعادة، وبعد ذلك الخبز.
لاحظت زوجته الحليمة:
ـــ كم تغضب سريعاً! حسناً، أنت لا تحتاج إلى السعادة... لكن الجميع ليسوا مثلك.
وخاطرت ابنته بالقول:
ـــ أنا، مثلاً...
فردّد الأب بنبرةٍ مهدِّدة:
ـــ أنتِ، مثلاً...
تابعت الفتاة بيأس:
ـــ أنا مثلاً، سأشتري حقاً، واحدةً، واحدةً صغيرةً منها، لأعرف فقط كيف هي مصنوعة هذه السعادة.
قال الأب قاطعاً ومغتمَّاً:
ـــ هيَّا بنا.
تركت المرأتان نفسيهما تُجرَّان بطاعة. لكن العجوز كان الآن منزعجاً. فقال:
ـــ لم أكن أتوقع ذلك منكِ حقاً، يا جيوفانا.
ـــ لماذا يا أبي؟
ـــ لأنها بضاعة من السوق السوداء، من مُحْدَثي النعمة، من أصحاب الملايين... إن موظفاً في "الدولة" لا يستطيع، ويجب ألا يطمح إلى السعادة... وعندما تقولين بأنك تودّين شراءها، تثبتين على الأقل عدم إدراكك... كيف... نحن نؤجِّر غرفاً في منزلنا، ويصلني راتبي التقاعدي تقريباً في أوّل الشهر، وأنتِ...آهٍ، إنّك تخيِّبين أملي، إنكِ تخيِّبين أملي.
غَشَت الدموع عيني ابنته. فقالت الأم:
ـــ هل ترى كيف أنتَ؟ إنك تمضي وقتك في تأنيبها. ثم إنّها لا تملك شيئاً في الحياة، وهي شابة، فأين الغرابة في أن ترغب في تذوُّق السعادة؟
ـــ لا شيء... لقد استغنى والدها عنها، وهي أيضاً تستطيع الاستغناء عنها.
كانوا الآن قد وصلوا إلى ساحة "ريزور جيمنتو". لكن، خلافاً لعادتهم، أراد العجوز، هذه المرَّة، العودة على الرصيف ذاته. وعندما وصلوا إلى أمام المخزن، توقَّف، ونظر طويلاً إلى الواجهة، وقال:
ـــ هل تعرفان ماذا أعتقد؟ إنها مزيَّفة.
ـــ ماذا تريد أن تقول؟
ـــ حسناً؛ أمس فقط، كنت أقرأ في الجريدة أن سعادةً صغيرة مثل هذه، في أمريكا، أقول جيداً في أمريكا، تكلِّف عدّة مئات من الدولارات... فكيف من الممكن أن يقدِّموها لنا بهذا الثمن؟ إن سعرها مع تكلفة النقل يكلِّف أكثر بكثير... إنها مزيَّفة، إنها منتجات محليَّة... لا يوجد في ذلك أدنى شك.
جازفت الأم بالقول:
ـــ لكن الناس يشترونها.
ـــ وما الذي لا يشتريه الناس... سوف يكتشفون ذلك بعد أن يعودوا إلى منازلهم، خلال عدّة أيام... غشّاشون!
واتصلت نزهتهم. لكن جيوفانا كانت تبتلع دموعها، وتفكِّر بأن السعادة، حتى المزيَّفة، ستعجبها.
رلى مبدع
عدد المساهمات : 84 تاريخ التسجيل : 21/02/2009
موضوع: رد: سعادة للبيع ـــ ألبرتو مورافيا السبت أبريل 11, 2009 7:36 am
القصّة مشبعة بقلق الروح في ظلّ مجتمع إستهلاكي ،حتّى السعادة تصير فيه برسم الواجهات ، إنه العالم الرأسمالي ، يروّج سعادة مشكوك بأمرها . وثمة من يبكي لأنه يريد أية سعادة وإن كانت مغشوشة .