قصة فصيرة ــ ملك الموت

ملك الموت
على ورقة صغيرة كتب وصيته الأخيرة وهي أقرب ما تكون الى الاعتراف الصريح بالخسة والوضاعة وشتم الذات حيث كتب فيها مما كتب " أنا لا أستحق الحياة .. انا عار على جبين الانسانية .. ومصيري الى جهنم وبئس المصير .. اليوم فقط ولأول مرة سأقوم بعمل يعيدني الى رجولتي وهو ان أنهي حياتي بيدي " ووقع على ذيل الورقة باسمه بعد أن نعت نفسه بالحقير .. وتركها على طاولة تتوسط غرفته بجانب زجاجة فارغة من الكونياك الرخيص أحس وهو يشربها كي يسكر أنها تنقص من تصرفه الرجولي فهو جبان لدرجة أنه سيواجه الموت سكرانا وكان الأحرى به أن لا يكون كذلك ويمضي الى الموت بكل قواه العقلية ...
سار مترنحا تجره رجلاه بصعوبة بالغة من شارع الى آخر ومن طريق الى زقاق ..تتلقفه عيون المارة بالسب والشتم والرثاء ..ويشعل سيجارة من أخرى حيث ينوي تدخين أكبر عدد من السجائر قبل أن يموت ..
جلس على حافة الرصيف وقد أعياه السكر والتعب ، تمدد على ظهره ، ونام والشمس تغادر سماء اليوم آخذة معها لهيب النهار وتاركة فسحة ضيقة لنسائم لطيفة تهب على وجهه ...
فتح عينيه على نور ساطع من مصباح يتدلى من السقف وعلى صوت القرآن الآتي من الغرفة المجاورة ، مد يده وحسس الى جانبه فكان طريا وثيرا ، جلس على حافة السرير الوثير يجيل بصره في أرجاء المكان واقتنع أنه لا زال سكرانا وأن زجاجة الكونياك هي من النوع السيء والمغشوش تنام معها " السكرة " الى اليوم التالي ، تفقد علبة سجائره ، أشعل السيجارة الأخيرة ووضع اصبعه على اللهب المنبعث من الولاعة وأدرك أنه لا يحلم وليس سكرانا ، وهذا الشيخ الجليل بلحيته البيضاء الطويلة يفتح باب الحجرة ويدخل مبتسما حاملا كوبا من " الزهورات " يمسح على جبهته ويتمتم بآيات من القرآن ويناوله الكوب ، انه الآن اقتنع بأنه لا يحلم وأن ما يحدث معه حقيقة لا خيال ...
ــ : ما الذي أتى بي الى هنا ؟؟ ومن أنت ؟؟ ..
ابتسم الشيخ ابتسامة عذبة تدخل الطمأنينة الى النفس وقال :ـ أنا ملك الموت ..
: ــ ملك الموت مخيف ومرعب وأنت لست كذلك أتسخر مني ؟؟
:ــ صدقني أنني ملك الموت .. وأنا لا يخاف مني الا الفاسقون العصاة والكافرون أما أنت فمن المؤمنين الصالحين انشاء الله ولذلك لم تخف مني
:ــ أعدت تسخر مني ثانية ؟ وهل أنا مؤمن حتى لا أخاف منك ان كنت فعلا كما تقول أنك ملك الموت ؟؟انني بعيد كل البعد عن الايمان حتى أنني قررت الانتحار ..
ابتسم الشيخ وقال بهدوء عذب :ــ لذلك أنت مؤمن ..
فقال بحدة :ــ ويحك يا رجل ما الذي تهذي به ؟؟ أقول لك قررت الانتحار ومصيري الى جهنم لأني سأقتل نفسي وتقول لي أنني مؤمن !!
:ــ الايمان في قلبك هو الذي دفعك لذلك ..
:ــ الايمان يؤدي الى الكفر ؟؟ ومعصية الله ؟؟ هذا تناقض غريب لا أفهمه ..
ابتسم الشيخ الجليل ، ومسح على رأسه ،وتمتم بآيات من القرآن ، وقال :ـ يا بني .. أنت كثير الخطأ وعصيت ربك كثيرا واقترفت المحرمات ولكن شيئا ما في قلبك كان لا يرضى بذلك .. انه الايمان ..كنت تندم بعد كل معصية وكان هذا الندم بدافع الايمان سيقودك الى التوبة يوما ما وكان الشيطان في المرصاد وعندما كاد الايمان يتغلب على الشيطان واقتربت من التوبة استعمل الشيطان آخر سلاح وهو الانتحار كي تموت كافرا بعد أن أوشك أن يخسر المعركة ..
أغمض عينيه والشيخ يقرأ آيات من القرآن ،وتلاشى ضوء المصباح رويدا رويدا ، حسس بيده في العتمة فتلاقت مع حجارة الرصيف ،نهض من نومه وعدل جلسته ،أمسك رأسه بكلتا يديه ضاغطا على جانبيه من شدة الألم ،نهض مترنحا لا يكاد يستطيع الوقوف ، أشعل السيجارة الأخيرة ،وصل بيته بصعوبة ، مزق الورقة الصغيرة ، وصلى الفجر ونام ..
أحمد يوسف ياسين ــ عانين ـ جنين ـ فلسطين