كانت سكينة الفتاة الريفية التي تبلغ من العمر خمسة وثلاثين سنة ذات الشعر الأسود الملفوف بخرقة حمراء إلا جدائل متدلية من فوق الأذنين تمتلك جسما ممتلئ وقصر زائد عن المعتاد تنتظر وصول شخص ما في حدود الساعة الخامسة بعد الظهر، القلق باد عليها ، هكذا كان يظهر تعبير وجهها، والأطفال ينظرون إليها غير مدركين ما يدور في خلد والدتهم فتجاوبوا معها مظهرين قلقا وحزنا هم الآخرين، إلا أن ابنها الذي يبلغ من العمر تسع سنين بادرها قائلا ، ديد .... ديد مالذي يحزنك ؟ مالذي يحدث؟ وبدأ سيل من الأسئلة الطفولية ينهال عليها ليضاعف حزنها ويزيدها فلقا ، أجابته، لا شيء يا بني ، كل الأمور بخير، اجلس مكانك ، وكف عن هذه الأسئلة فليست لدي أجوبة عليها .
كان هذا الكلام كفيلا بإثارة الشكوك لديه ، غير أنه آثر السكوت في استسلام وخنوع تامين، ممتثلا في نفس الوقت أوامر والدته ، فهو لا يزال يذكر زميله في القسم الذي أوسعه المعلم ضربا لأنه لم يحفظ الآيات الكريمة (.....وقضي ربك إلا إياه وبالوالدين إحسانا....) وكذالك الحديث الشريف(...الجنة تحت أقدام الأمهات
انقضت ساعتين والساعة الآن تشير إلي الساعة السابعة مساء وهي لا تزال في حيرة تامة ، إنها قادمة من البادية منذ شهرين فقط ولا تجيد حتي استعمال الهاتف الذي بدأ يغزو العامة بشكل مذهل، ولم تتعلم حتي الآن إلا كيف توقد الغاز لأنه يرتبط بشكل وثيق بحياتها اليومية في إعداد الوجبات التقليدية .
بدأت إعداد وجبة العشاء للأطفال، الذين تحلقوا حولها في وجوم ينم عن قلق داخلي مكتوم، بعد مضي فترة استغرقها إعداد العشاء ، استسلموا للنعاس مفترشين حصيرا من الخشب ويلتحفون بطانية بالية جلبها السالك في اليوم الثاني من ولوجهم عالم المدينة الجديد.
بعدما اطمأنت الأم علي نوم أطفالها خرجت باحثة عن المدعو أحمدو، فقد سمعت زوجها يذكر أنه يسكن قريبا منهم وبالضبط في الجهة التي يسلكها السالك صباحا أثناء اتجاهه إلي الشغل ، حزمت أمرها وقررت البحث عنه، وبدأـ تسأل في طريقها هنا وهناك عن من يعرف أحمدو ، فيجيبها أحدهم ، من أحمدو؟ ابن من هو؟ غير أنها لا تجيب لأنها لا تعرف كيف تجيب السؤال الثاني، وفجأة تذكرت أنه في أحد الأشرطة التي بعثها لها في البادية أخبرها فيها بأنه يعمل في الميناء الوحيد الذي يوجد في البلد، و أحمدو يعمل معه في نفس الميناء ، جاءت للأسرة الثالثة وبعد السلام قالت أنا أبحث عن شخص يدعي أحمدو، يعمل في الميناء وبالتحديد في تفريغ حمولة البواخر ، هل يعرفه أحدكم؟ إلا أنها تطمئن نفسها فالحي يقطنه في الغالب عمال يدوين ولا شك ستجده، فهم متعارفون بقوة، أخيرا قال لها شخص لا تعرفه ولم تتمكن حتي من رأيته لأنه غارق في ظلام دامس، أتقصدين أحمدو ولد بلال الذي يعمل في الميناء؟ فأجابت نعم هو بالذات، يحدوها الأمل أن يكون هو الذي تبحث عنه بالضبط وألا تكون مصادفة، قال لها اتبعيني قليلا وقبل أن يرشدها بدأ يسألها ، ما حاجتك به ؟ هل من مشكلة؟ تعمدت ألا تجيبه فهي خجولة، بالإضافة إلي أن الأمر شخصي ولا يجب أن يطلع عليه أي كان، فلم يعد السؤال لما رأي من تجاهلها له وقال لها أترين ذالك البيت الخشبي ( لبراك) ذالك هو مسكنه ، وقفت عند الباب وسلمت وأردفت قائلة هل أحمدو موجود؟ نعم تفضلي هل من مشكلة ؟ في الحقيقة أود لو أكلمك لوحدنا ، خرج في استغراب تام من هذه الحاجة في هذا الوقت من الليل ! نعم تفضلي ، أنا زوجة السالك جئت أسألك عنه فهو لم يعد منذ غادر هذا الصباح والأولاد قلقون جدا عليه ، أدرك الموضوع في الحال ورد عليها اطمئني سيعود ، وربما سيكون قد عاد بعد مغادرتك ، فقط عودي إلي المنزل سيعود إن شاء الله وقفل راجعا بعد أن ودعها ، لم تفهم تصرفه هذا، فمرة يقول لها قد يكون عاد بعدك وأخري يقول لها سيعود ، إلا أنها وجدت في كلامه بعض الراحة ،وعادت أدراجها ، فتحت بيتها الخشبي الوحيد وجلست تنتظر ، بعد دقائق سمعت دقات علي الباب وصوت خفيف يناديها سكينة سكينة ... افتحي ، هبت واقفة وفتحت الباب ، مابك؟ لم تأخرت هكذا ولم تتكلم بصوت منخفض؟ لم يزد أن قال اجلسي ليس هذا وقت الكلام ، أخاف أن نوقظ الأطفال، أنا متعب سأنام وفي الصباح إذا سأل أحد عني فأخبريه أنني لم أعد من يوم أمس ،امتثلت لأوامره فهي قروية تربت علي الخضوع ، تطيع دونما تردد ، فطاعة الزوج من طاعة الله ، هذا ما قالته لها أمها في يوم الوداع ، يوم غادرت قريتها الجميلة تاركة ورائها أشخاص بدائيون بطبعهم يقنعون بأبسط الأشياء ويأخذون الحياة ببساطة كذالك ، آوت إلي فراشها بجنب زوجها ، والشكوك تتسرب إلي نفسها فهو لم يكن هكذا خلال الشهرين الماضيين ولا شك في وجود أمر ما .
في حدود السابعة صباحا سمعت شخصا يسأل عن زوجها ، فهي لم تنم طوال الليلة الماضية ، أيقظته بهدوء ، استيقظ هناك من يسأل عنك في الخارج، لا تنسي ما قلت لك البارحة ، لم تطعه هذه المرة لقد علمت كذالك من أمها في تلك الوصية التي مازالت تتذكرها كلها ألا تساعد أحدا علي الباطل حتي ولو كان زوجها ، وعندما قرع الباب قالت له أنا لن أكتم عليك ، عليك مواجهة السائل، وفي نفس اللحظة فتح الباب عنوة ،فإذا بضابط شرطة منتصب كالجبل وصاح، اخرج أيها المخرب ، يا محتال ، أتعتقد أنك ستنجو بفعلتك؟ لم يجبه وإنما التفت إلي زوجته وخاطبها قائلا لا تخافي الأمر بسيط سأعود بعد قليل ، الأمر يتعلق ببعض الحقوق التي نطالب بها ،فقط لا تخبري الأولاد.
في مخفر الشرطة تليت عليه الشكاوي التي تقدم بها رجل الأعمال المعروف والتي تضمنت سرقة بعض أكياس الأرز وكذالك بعض قطع غيار السيارات وتخريب بعض الآلات الثمينة وهذا في حالة ثبوته يعقب عليه بالسجن خمس سنوات حسب رغبة رجل الأعمال، إلا أنه خير في الكف عن المطالبة بهذه الحقوق و الإفراج عنه من جهة أو السجن من جهة أخري، فآثر الصمت في عالم مليء بالظلم و الاحتقار وكبت الحريات وموت طموح كان يأمل تحقيقه