صراع .. بعد هروب
عنوان قصتنا هو "صراع بعد هروب"، و كفى بالعنوان تعريفا"، فعندما تلامس أسماعنا كلمة صراع يتهيأ لنا في أذهاننا الصراع بين شخصين، لكن ما نعنيه بهذه القصة هو الصراع النفسي بين الخير و الشر، اللذين كانا يلازمان صديقنا "رياض" بعد هروبه من الحادث الذي جرى له، فهو المحرك الأساسي و المحور الأهم في قصتي.
رياض شاب في الصف العاشر، نشأ في إحدى قرى الأرياف، وتعلق قلبه بحب قيادة السيارة منذ نعومة أظفاره رغم قلة وجودها في قريتهم، و رغم إصرار والده على عدم قيادته السيارة قبل بلوغه السن القانونية و حصوله على رخصة القيادة.
و حقيقة الأمر أن وراء شغف "رياض" و تعلقه بالسيارة يقف الأسطة "عوضين"، فهو يملك جراراً زراعياً، و يسمح له بين الفينة و الأخرى بقيادته في الحقل بعيداً عن الناس . لكن الرياح لا تجري بما تشتهي السفن، فقد رأه والده غير مرة يقود الجرار، فزجره و أنبه و منعه من تكرار ذلك، حفاظاً على سلامته وخوفاً من ارتكاب خطأ قد يفضي إلى حادث مفجع .
و لأن كل ممنوع مرغوب، فقد زاد تطلعه إلى قيادة سيارة خاله الذي يعيش في المدينة و يزورهم بين الحين و الآخر، و كانت تلك اللحظات الأكثر إيلاماً له، فهو لا يمكنه الطلب من خاله خوفاً من إغضاب والده، و لا يستطيع التغلب على مشاعره الجياشة لفعل ذلك بالخفاء عندما ينام الجميع ليلاً .
و أخيراً سنحت له الفرصة للقيام بمغامرته التي كان يحلم بها طويلاً، فقد استغل غياب والده في المدينة، و أصر في قرارة نفسه أن يسرق مفاتيح سيارة خاله ليلاً، و أن يجوب بها أزقة القرية بعضاً من الوقت ليعيدها ثانية دون أن يتنبه له أحد .
نجح "رياض" في خطته، و قام بتشغيل السيارة، و انطلق بها ببطء حتى وصل الطريق الرئيسي الذي يصل القرية بالمدينة، رغم أن ذلك لم يكن في خطته لكن الشيطان زين له عمله، و هناك بدأ بزيادة السرعة ظناً منه أن السيارة أكثر أماناً من الخيل التي خبر قيادتها جيداً بطواعية تامة.
و ما هي إلا دقائق معدودات حتى طار بالسيارة و كأنه يسابق الريح، لكن الأمر لم يدم على هذا الحال طويلاً، فقد واجهته دابة تقطع الطريق، فلم يدرك نفسه إلا و السيارة تنحاز إلى جانب الطريق بحركة لا إرادية منه، و تهوي بسرعة لتصطدم بشجرة ضخمة و تتهشم.
أصيب "رياض" ببعض الجروح، لكنها لم تمنعه من الخروج من السيارة و التوجه على غير هدى إلى حيث يظن نفسه في مأمن من الناس و رجال الدرك. مرت اللحظات حالكة السواد، و هو يهيم على وجهه في ظلمة الليل و ظلمة نفسه، و انطلق يجري بسرعة يقطع الهضاب و الوديان حتى أعياه الجري و سقط أرضاً مغشياً عليه.
أفاق "رياض" ليجد نفسه على فراش في بيت غريب يحيط به أناس غرباء لا يعرفهم، و قد لفت ساقه بجبيرة و ربط رأسه بأربطة طبية، و فهم من الحديث الذي كان يدور حوله أنه في بيت مختار قرية أخرى، و عرف فيما بعد أنها تبعد عن قريته مسيرة ساعتين بالسيارة، لكنه لم يفصح لهم عن هويته و لا عما حدث له في تلك الليلة العصيبة، خوفاً من أن يعيدوه إلى قريته و يعاقب على فعلته الشنيعة التي قام بها في لحظة تهور طائشة .
دخل "رياض" في هذه اللحظة في صراع شديد بينه و بين نفسه، جعله يهرب من مواجهة الواقع ، فقرر الهروب من خلال دهليز معتم لعله ينجو بجلده من عواقب فعلته، فعزم أن يتظاهر بأنه فاقد للذاكرة لا يعلم من هو و لا من أين أتى.
خاطبه المختار قائلاً : حمداً لله على سلامتك يا بني، لقد وجدناك منذ يومين ملقاً على الأرض تنزف الدماء، فأحضرناك إلى هنا وقام طبيب القرية بإسعافك ، وها أنت الآن أحسن حالاً فما هو اسمك؟ و من أين أنت؟
ارتبك رياض و رد عليه و هو يتظاهر بالألم في رأسه : لا أذكر شيئاً . يا إلهي لا أعلم شيئاً . من أنا؟ من أين أتيت؟ و راح ينشج في بكاء مرير.
تعاطف الحاضرون حوله مع حالته، و طلبوا من المختار أن يرأف بحاله، و أن يكف عن سؤاله حتى يتحسن وضعه، و يكشف لهم عن هويته ليساعدوه في العودة إلى أهله. فقال له مختار القرية : لا بأس عليك و هون على نفسك فسوف تتعافى قريبا،ً و ترد لك ذاكرتك فنعرف كل شيئ عنك و نردك إلى أهلك سالماً غانماً .
كفكف رياض دموعه و تمتم قائلاً : شكراً لك سيدي على اعتنائك بي و حسن ضيافتك لي.
مرت أيام و أيام و هو على هذا الحال، و الناس حوله يحيطونه بكل الاهتمام و الرعاية والحنان، و بدأ يتماثل للشفاء ، ويخرج من بيت مضيفه مع بعض أبنائه ليتنزه ، فرأى في أحد الأيام قطة تموء بصوت عال كأنها تبكي، فقيل له أنها فقدت وليدها بالأمس حيث دهسته سيارة، فكان ذلك كناقوس دق جرسه ليستفيق من غفلته ، و أصبح من يومه يدير الأمر في عقله، و يتخيل ما قد يحدث لأمه في غيابه المفاجئ ، فهي لا شك تنوح الآن و تبكي كل وقتها، و لعل والده قد أصيب بصدمة ربما أدت به إلى مرض عضال ، و ما هو رد فعل خاله الذي خسر سيارته؟ ثم ماذا سيكون مصيره في المدرسة؟ و كيف له أن يعيش حياته بعيداً عن أهله بأمان على نحو طبيعي كما كان قبل الحادث المشؤوم؟ أسئلة كثيرة عسيرة لا تبرح تجول في خاطره و تؤرق ليله و تفسد عليه نهاره.
ظل الصراع العنيف تدور رحاه في نفسه، حتى حانت لحظة الحسم التي فجرتها القطة المفجوعة بوليدها ، فأفصح لمضيفيه في لحظة شجاعة عن حقيقة أمره ، و أخبره بكل ما جرى له ، و تفهم المختار حالته النفسية التي كان عليها و قام من فوره بمرافقته إلى قريته، و هناك تمكن المختار بحكمته و رجاحة عقله أن يجمع شمل الأسرة ، و بذلك عاد "رياض" إلى حضن أهله الذين كانوا في حالة شديدة السوء لغيابه. ورأى صديقنا بأم عينه ما سببه من أذى و ألم و شقاء لأهله جراء ما جنته يداه، و علم يقيناً ما تعنيه السلامة المرورية من حفاظ على سعادة الإنسان.
و قبل أن يغادر المختار القرية سأل رياضاً عما تعلمه من محنته تلك، فرد عليه بكل وضوح و دون تردد قائلاً : أتمنى الآن أن أصرخ بأعلى صوتي ليصل ندائي إلى كل شاب و شابة في هذا العالم. أطلب منهم أن يدركوا معنى اتباع الإرشادات و التوجيهات التي تصدرها إدارة المرور للحفاظ على الأرواح و الممتلكات الخاصة والعامة ، و عدم التعجل في الجلوس خلف مقود السيارة قبل الحصول على رخصة القيادة، و نبذ التهور و الطيش أثناء القيادة; فإن الحكمة تقتضي التروي في الأمور كلها و القيام بما يمليه علينا الضمير والعقل تجاه أنفسنا و تجاه الآخرين.