[right][b]
صاح النورس هذا الصباح صامتا ، لم يصدح بالصدح المباح ، فرك مقلتيه ، التفت يمنة ويسرة ، حاول أن يرتد ببصره إلى الوراء ، فهاب أن تزهر الذكريات في جنان الجلاء ، أزهارا ألوانها قزحية أو أنواء ؛ نظر قدامه فلم ير إلا هذا الإشراق النائي التائه بين كثبان الأزمان التي لم تتفتح أكمامهاهذا الصباح ، فهاب في استرعاب ، أن يقرأ فنجانه المغيب بين سراديب الفنجان .
هكذا حكى عنه فلان بن فلان ، . . . قبل أن يشرع أشرعة اللسان بين أودية الهذيان ، وشراك الوجدان الذي كان قبل الآن . . . ، منذ أزمان .
لمَ قال ذاك :
إذا ما الليل أضواني بسطت يد الهوى + = + وأدرفت دمعا من خلائقه الكبر
هل حقا سقاني الحب هذا الكبرياء وهذا المآل والحال ـ همس خيفة في سريرته ت ؛ التفتَ مخرسا مبصبصا حواليه . . . ، ثم أردف من رفده الردف الضوي .
كانت وردة الحي ، تلك الصبية التي كانت جارة دارنا ، لم تكن جارتي ، إنها جارة دارنا فقط ، وفقط ،حين تفتحت أكمامها عن . . . ، وعن . . . ، كان العود مثل الخيزران ، يتبختر النسيم إذا تماليت ، أو انحنت في عطف الجنان .
كنتُ ـ أتذكر يا صاح ـ أنك ذاك الصباح تردد للصدى همسه ، فترتد ارتداد الثملان ، و تحتاط احتياط الثغران . . . ،لكن . . . ،يا صاحبي قد أحببتَ عن غير قصد ، ولم تكن لرمية السهم مقصدا ، ولا موعدا ، ولكن تلك كانت لحظة لم تنساها ؛ ثم انتفض انتفاضة في ارتعاش كأنما جنانه زلزلته نسمة ذالك الأصيل من صيف كان فريد دهره .
التفت . . . يخرز في جلوس المقهى الشعبي ؛ ثم حضن بكفيه جنانه المتزلزل وبصوت يكاد يداعب سمعهم ـ وكما يروى عنه ـ :
كانت زهرة الحي ، تعبق بعبير أنوثتها إذا خطت في الدرب ، أحيانا تسرع الخطو ، وتارة تتئذ في توأذة النعسان ،حتى تختفي خلف ظلال الدروب . . . ،لكن رجع أنوثتها لم يبرح رٍاس الدرب ، أحيانا تلتفت تختلس النظر إلى الخلف كأنها ترقب شهبا يتعقبها في سكون ، حتى إذا ما غيبتها أسوار المدينة العتيقة ، واحتضنتها شتلات الغابة المجاورة ، كانت تنطلق كريم ، في خفة فراشة ، لعلها تستنشق من عطر الغابة ما كانت تملأ به وفاض رئتيها قبل أن تؤوب إلى دارهم . . . ، والمعهد . . . ،حتى إذا ما دنت من ظل دوحة ، استلقت ، وداعبت ظفيرتها بعد أن تكون قد فكت ظفيرتها ، وكأنها كانت تشعر أشجار الغابة بأنها ركنت إلى فردوسها .
زفر صاحبنا زفرة وشهق ، وهو يلتفت إلى جلوس المقهى ، وحين اطمأن أن أحدا لم يتخرص نحوه ولايبصبص ولايهمس ؛ قال :
وإني لأستغشي وما بي غشوة = + = لعل خيالا منك يلقى خياليا
وأخرج من بين الجلوس لعلني = + = أحدث عنك النفس بالسر خاليا
قال الراوي احتبس في جناني نسيم هذا العشي الأصيل في ساحة الفدان ؛ والتفتُ أخرص من حولي ، وقد تضوع الجنان من ضوى هذا ، وانسللتُ في هدوء قبل أن يهمس من كان في المقهى من الجلوس ، فيكتشف بؤس حالي ، وينعتني ببعض ما عليه صاحبي ، واعتاده من قول مغموز ، وقصد مهموز ، فوقفتُ مغادرا ، وإذا بطيف صاحبي يسقني لمغادرة المكان ، فخرجنا متسللين بين الكراسي ، وكأني هو ، وكانه أنا .