:cat: نصف الحقيقة
حلق بي التفكير في أمكنة سحيقة داخل دهاليز ذاكرتي ...أجرى مسحا شاملا لتضاريس طفولتي . و سرعان ما عرج على فترة الشباب الزاهرة.. تلك الحقب الغابرة، منها ما يثير في النفس الشعور بالدعة و الرضا . حينها تهتز شفتاي مشرقة بالابتسام...و منها ما يثير الضجر و الملال فيتسلل الاستياء إلي محياي .
واسترقت السمع إلى رجع الصدى بداخلي وهو يهتف لي بصوت خفوت : ليت عقارب ساعة الزمن تسمرت عند تلك الأوقات المتألقة من عمرك يا صديقي.
رن..رن..رن..أعلنت الساعة تمام الخامسة .تلك الساعة الحائطية النخرة المتشبثة بذلك الجدار المهترئ وسط مسكني. مسكن ضئيل و محشو خجلا بين كوكبة من المساكن ...انتشلتني رناتها الوادعة من تلك الأمكنة المتناثرة في جوف ذاكرتي و سلبتني سلبا من تلك الجغرافيا اللذيذة التي تمتد وسط خلايا دماغي ...واستجمعت بقاياي المتراخية من فوق الأريكة الوحيدة التي تصنع ذلك الديكور النمطي وسط غرفتي.
و ما هي إلا دقائق قليلة حتى أغلقت باب البيت و دلفت أدراج العمارة ألتهمها نزولا بعد أن أعدت إلى جسدي الناحل بعض أناقته التي استنزفها الشغل المضني في المكتب...و سرعان ما ملت إلى مخدع هاتفي متواري عن الأنظار في احتشام.
- ألو ..عامر موجود من فضلك ؟ -
أجابني صوت أنثوي أنيق – من على الهاتف رجاءا ؟ -
- سعيد المحامي – قلتها هامسا كي لا أثير فضول المارة...و مضت هنيهة و كان صاحبنا على الخط – نعم سعيد.. مساءك سعيد ..كيف كان لقاءك مع المتهم بسرقة محل الصائغ شعبان؟-
- ليس كما كنت أتمنى..أظن أن الفتى يكتم عني نصف الحقيقة –
- أنا لا أطمئن إلى ذلك الصنف من الفتيان –
-لكنني مع ذلك أميل إلى فرضية أن الفتى برئ .لا تنس أن المتهم برئ إلى إن تثبت إدانته...على الأقل بصماته ليست متورطة في موقع الجريمة-
- استشعر من كلامك أنك ستترافع عنه؟ -
- ليس قبل أن أستشف منه الحقيقة كاملة..و لحسن الحظ فان المتهم قد استفاد من إفراج مؤقت ما يتيح لي أن أحادثه دون ضغوط من أحد –
صمت عامر ثم أردف – موعدنا إذن هذا المساء على طاولة العشاء في بيتي . و كل الأعذار مرفوضة –
- سأكون في الموعد ...شكرا مسبقا-
عامر صديق الطفولة. أنا أغبطه دوما لأن القدر أتاح له زوجا صالحة و بيتا دافئا...و في سمعي ترن دائما كلماته الصادقة- أما آن لنا أن نفرح بطلاقك لحياة العزاب المقرفة ؟--.
كانت قدماي قد استقرتا بي في ساحة رحيبة تفضي إلى عدد غير منته من الأزقة المتوالدة كالعشب البري..هنا حيث يشتد الزحام ،و يتضوع العرق الذكوري ملتحما في إلحاح شديد مع العطر الأنثوي...و على تلك الأرصفة المترعة التي توشك أن تئن من وطأة المارة ، تنساب الكتل البشرية متقاطعة بين رائح و قادم ...هناك رصدت عيناي طيف شخص أعرفه و يعرفني . من؟ لا أصدق ؟ أنا أعرف هذه السحنة و تلك القسمات الموغلة في البراءة...بصري لا يخطئ هدفه إلا لماما . طن..طن..طن...ضجت تلك الساعة الكبرى الراسخة في كبرياء وسط الساحة...لا زلت أتذكر يوم أن ركبوا تلك الساعة العملاقة. كان يوما مشهودا. أتوا بها من الصين هناك في كبد الشرق حيث تحترم الشعوب قيمة الدقائق و الثواني...سمعت يومها أحد الشيوخ يقول متبرما- ساعة عملاقة تساوي الملايير لشعب كسول لا يعبأ بالوقت قط- ثبتوها بعد لأي وسط الميدان و عزفت المزامير و دقت الطبول و احتفى الناس ليلة كاملة بهذا الحدث السعيد...إنها السادسة تماما، تومئ لليل أن يتهيأ ليسدل أستاره الرمادية على هذه الجلبة التي آن لها أخيرا أن تتلاشى و تنقشع إلى أن يأذن الفجر بالانبلاج .
أحسست بالدماء تتدفق بحرارة إلى وجنتي و من ثمة إلى شرايين دماغي ...و مع كل رنة جهورية من رنات تلك الساعة السامقة كانت الدماء تمعن في السرعة و التدفق و الغضب. تسمر بصري بالطيف البعيد ذاك...ضغط الدماء يوشك أن يفجر جمجمتي المنهكة و المجهدة. وساورني غضب عارم يكفي لنسف جبال الألب الثلجية من مكانها...تسللت قدماي بروية إلى حيث الطيف الذي استحوذ على حاسة بصري بعد أن تبددت من حوله بقية الأطياف البشرية الأخرى...أخيرا تبينت صاحب الطيف عن كثب دون أن يشعر بوجودي وسط ذلك الركام الآدمي .
انه المتهم بلحمه و شحمه و نذالته...لقد كان على وشك أن يقتلع قلادة ثمينة من جيد سيدة كانت في غفلة من أمرها. و لكن أمرا ما أفشل خطته و نجت طريدته بأعجوبة ...و تلاشى هو كالزئبق وسط الخلق.
في المساء و على طاولة العشاء...كنت أقول لصديقي عامر و نحن نرتشف الشاي – بعد أصيل اليوم اكتشفت صدفة نصف الحقيقة الذي غيبه المتهم عني لمدة طويلة-
قال عامر بعد أن استمع للرواية كاملة- و هل ستترافع عنه ؟؟-
أشعلت سيجارتي و في اقتناع راسخ قلت – سأكون محتالا إذا ترافعت عن لص -